تعديلات تشريعية تهدد استقلالية “البنك المركزي التونسي”
أثار حديث نائب رئيس مجلس نواب الشعب التونسي رياض جعيدان في شأن انطلاق مناقشات مرتقبة للحد من استقلالية البنك المركزي التونسي ضجة في الأوساط المالية ولدى المتخصصين، إذ أعلن أن لجنة المالية بالبرلمان ستناقش عديداً من المقترحات الإصلاحية، ومنها ما يتعلق بدراسة الحوكمة بالبنك المركزي بهدف تحويله إلى مؤسسة فعالة، موضحاً أن الإصلاحات لن تسير في اتجاه إخضاع البنك للسلطة التنفيذية بصفة كلية، لكنها ستناقش مهامه لتجعله في خدمة الدورة الاقتصادية والمؤسسات التونسية والمواطنين.
حديث جعيدان أثار ردود فعل متباينة، بين داعين إلى النظر في النظام الأساسي للبنك ومراجعة وظيفته من جهة، ومحذرين من انزلاق خطر للاقتصاد التونسي وانهيار توازنات السوق المالية في حال العودة إلى هيمنة القرار السياسي على مؤسسة الإصدار.
تمكن البنك المركزي التونسي من الحصول على استقلالية تامة عن السلطة التنفيذية قبل سبع سنوات، بمقتضى القانون 35 المؤرخ في 25 أبريل (نيسان) عام 2016، ويضبط النظام الأساسي في نص الفصل الثاني منه على أن البنك مؤسسة عمومية تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي. ويحدد الفصل الثاني مسؤوليته ويذكر أنه مستقل في تحقيق أهدافه ومباشرة مهامه والتصرف في موارده، ويخضع للمتابعة والمساءلة من قبل مجلس نواب الشعب.
استقلالية قانونية
وأتى في الفصل الثالث للنظام الأساسي أنه لا يمكن المس باستقلالية البنك المركزي أو التأثير في قرارات هياكله أو أعوانه في نطاق مباشرة مهامهم، كما حدد الفصل السابع أهدافه بـ”الحفاظ على استقرار الأسعار والاستقرار المالي بما يدعم تحقيق أهداف السياسة الاقتصادية للدولة كالنمو والتشغيل، ويعمل من أجل تنسيق أمثل بين السياسة النقدية والسياسة الاقتصادية للدولة”.
أتى القانون للنأي بمؤسسة الإصدار عن التجاذبات السياسية المحتملة، بعد أن تعرض محافظ البنك المركزي السابق مصطفى كمال النابلي وتحديداً عام 2011 لمحاولات للتدخل في السياسة النقدية من قبل الحكومة وجابهها بالرفض، مما أدى إلى إقالته.
مراجعة الصلاحيات
في المقابل سجلت في فترات سابقة دعوات إلى النظر في هذه الصلاحيات والحد من استقلالية المؤسسة في مناسبات عدة، لكنها لم تجد الآذان الصاغية طوال السنوات السبع الماضية، في حين بدت أكثر جدية عندما صدرت منذ يومين عن رياض جعيدان، الذي كشف عن أن الدافع الأساسي لهذه الإصلاحات هو ضعف أداء مؤسسة الإصدار في إدارة الشأن المالي، مدللاً على ذلك بغياب المنافسة بين البنوك التونسية وانعدام توفير عروض مختلفة بينها، وتحول خدماتها البنكية إلى شبه اتفاقيات ضمنية مخلة بالمنافسة، وقدم مثالاً على ذلك نسب الفائدة الباهظة والمتطابقة لدى جميع البنوك.
تأييد الدعوة
لقي حديث جعيدان تجاوباً من قبل أعضاء بالبرلمان ذكروا أنهم بصدد دراسة مقترحات في هذا المجال، وتضمنت الدعوات المؤيدة طلباً لتنقيح قانون البنك المركزي التونسي في إطار ما أطلقوا عليه “الخط المالي السيادي” على أن يسمح هذا التنقيح بتمكين الحكومة من الاقتراض بصفة مباشرة من البنك.
ونفى وزير الاقتصاد والتخطيط التونسي سمير سعيد سعي الحكومة إلى تغيير وضع البنك المركزي التونسي أو الحد من استقلاليته، وقال إنه سيظل من دون تعديلات.
وحذر الخبير المالي وسيم بن حسين في حديثه لـ”اندبندنت عربية” من تداعيات التقليص من استقلالية البنك المركزي، وما سيترتب عليه من تهديدات بخضوعه لإملاءات السلطة التنفيذية، ويتحتم أن تعمل السياسة النقدية على خدمة الاقتصاد وليس السير في ركاب السلطة السياسية، كما يقول، وتقدم أيضاً عديد من الأمثلة في العالم تجسيداً لخطورة خضوع البنوك المركزية للحكومات ونتائجها من نسب تداين مرتفعة وصولاً إلى تفاقم التضخم وسعر الصرف وانهيار العملة.
أخطار محدقة
أشار الخبير المتخصص في السياسة النقدية مهدي البحوري إلى أن البلدان التي تتحكم في نسب التضخم توجد بها بنوك مركزية مستقلة عن القرار السياسي، ولا توفر الاستقلالية للبنك المركزي التونسي الإفلات من المحاسبة، بل هو مطالب بتقديم تقرير سنوي لرئاسة الجمهورية التونسية وعرض نتائجه على مجلس النواب، بينما تكمن خطورة انعدام الاستقلالية في سيطرة وهيمنة الحكومات على مؤسسة الإصدار، وإخضاع البنك لحسابات سياسية كأن يرتفع مستوى التمويلات قبل فترة الانتخابات، وأمام حكومة تزيد في الإنفاق الاجتماعي من أجل ضمان البقاء في السلطة، مما يتسبب في تراكم الديون وتفاقم التضخم وانخفاض سعر صرف العملة المحلية وندرة العملات الأجنبية.
وحذر البحوري من أخطار جمة تترتب على المساس باستقلالية البنك المركزي، واصفاً ذلك بـ”التلاعب بالنار” في ظل غياب التوازنات المالية ومرور الاقتصاد التونسي بفترة حرجة.
بينما حدد المدير العام السابق للسياسة النقدية بالبنك المركزي التونسي محمد صالح سويلم مفهوم الاستقلالية قائلاً “هي النأي عن حسابات الحكومات والسلطات والأحزاب السياسية، بحكم مهمة البنك المركزي الأساسية وهي الحفاظ
على استقرار الأسعار”.
في رده على الانتقادات الموجهة إلى اتجاه “المركزي التونسي” إلى الترفيع في نسبة الفائدة، ذكر سويلم أن بهدف التحكم في التضخم يعتمد البنك المركزي آلية رفع الفائدة الرئيسة، لكنه يعود إلى تخفيضها مع انحسار التضخم لأن دوره تعديلي.
يضيف سويلم أن استقلالية البنك المركزي تخول وفق قانونه “عدم منح الخزانة العامة للدولة تسهيلات في شكل كشوفات أو قروض، وألا يقتني بصفة مباشرة سندات تصدرها الدولة” لكنها ليست استقلالية اعتباطية، بل لها هدف تنموي، فهي تتسبب في التزام الدولة سياسة مالية تعتمد تحقيق التوازن بين مواردها الذاتية ونفقاتها، بحكم أن إنفاق الدولة من دون مراعاة مواردها الذاتية يؤدي إلى تطور الكتلة النقدية مما يجلب التضخم.
ويشير المدير العام السابق للسياسة النقدية بالبنك المركزي التونسي إلى أن القاعدة المالية تحث على حتمية اقتراض الدولة من السوق المحلية، وأن تحميل السلطة كلفة الاقتراض يحثها على التمعن في سياستها المالية، ومن أبرز مكاسب استقلالية البنوك المركزية الحد من سقف التداين وعجز الميزانية.